وقفتُ أمام كومة الرسائل المرميّة فوق مكتبي. اليوم الأول في العام، أكثر من ألف رسالة رميت بشكل عشوائي، مكوّمة، تنتظر التصنيفات كي تصل إلى أصحابها.
جلست متأملاً الغرفة. الجدران هشّة، العفونة تأكلها. لا شيء سوى المغلفات والطوابع والصناديق وبعض القصص التي تنتظر الوصول، وأنا. قبل عشرة أعوام، حين أنهيت دراستي الثانوية، حللت مكان والدي في مكتب البريد، هكذا كانت ولا تزال التعيينات في هذه البلاد منذ أن هاجر جدّي لوالدي سنتياغو رودو الأكبر قادماً من إشبيليا، أورثني الاسم وابنه المهنة. وضعت كوب الشاي على المكتب، نفضتُ الغبار عن الرسائل، وشرعتُ في فتحها.
المرسل: “ميلينا”. المرسل إليه “بلاند”. العنوان: “المعسكر الوطني في البلقان”: حبيبي “بلاند”، سألتك في الرسالة الاخيرة عن الاسم الذي تفضّله لمولودنا، ولم تردّ. سأضع الطفل نهاية الأسبوع.”
يبعد المعسكر الوطني آلاف الكيلومترات عن مركز البريد، سيستغرق وصول الرسالة أسبوع. ستضع طفلها قبل أن يأتيها الردّ. من المؤكّد أنها لن تطلق عليه اسماً دون موافقة والده، وقد يبقى الطفل بلا اسم لأكثر من شهر.
على ورقة بيضاء، كتبت: “حبيبتي ميلينا، البرد يأكل أطرافنا هنا في المعسكر، وقلّة المواد الغذائية تدفعنا نحو الهلاك. نسخّن الماء ونشربه، ونقتات على الخبز الجاف المبلل بالشاي المتعفّن. الحياة قذرة هنا. وحده الخيال وحلم العودة يبقينا على قيد الحياة. لماذا لا تسمّيه “لوركا”، سيكون اسماً جميلاً”.
أغلقت الرسالة، ووضعتها في صندوق المرسل إليهم، أعدت كتابة عنوان ميلينا. أخفيت رسالتها في صندوق استعمله لرفع رجلتاي عن الأرض، ثبّته تحت المكتب وأوصدت أطرافه، هو خرم واحد في الأعلى، تدخل منه مغلفات الرسائل، تماماً كحصالات الأطفال.
الساعات تمضي وأنا أقرأ الرسائل، أعيد ترتيبها ووضعها في المغلفات وأرسلها. حين أفرغت ما بقي من كوب الشاي في جوفي، كنت أضع ما بقي من غنيمتي لهذا اليوم الممطر من المغلفات والرسائل في حقيبتي، سأكمل القراءة في المساء.
ترافقني الرسائل إلى البيت في بعض الأحيان، أتحسسها قبل فتحها، أغمض عيناي وأتخيل المحتوى، المرسل، المرسل إليه، بيوتهم، أطفالهم، شوارعهم وأعمالهم.. عالم من الخيالات يعجّ في رأسي.
سكبتُ كأسَ الويسكي، وجلستُ إلى طاولتي، وحدها الرسائل تؤنس وحدتي، بعد أن فشلت في بناء العلاقات وكنت مبدعاً في إنهائها. الوحدة. ذاك الصمت القاتل، اللاصوت، العدم. أن تدخل جوف الصخب ويجرفك الطوفان، أن تسكن الهدوء ويسكنك. لا تواصل ولا حوارات ولا مشاجرات ولا حتى ضحكات. اللاشيء بكل وضوح. الحنين إلى الذات، إلى الماضي، إلى الولدنات. الوحدة. الفراغ الذي يحمل الصدى، الحراك الهادئ، لحظة التأملات، الظلمات، الهفوات. النور الخافت، جمع الأضداد، ترويض الروح، سكون الضجيج. الوحدة. أشياء بلا أشياء، حياة بلا حياة، وتصرفات تأبى أن تكون تصرفات. الوحدة. سقوط الهامات، وحشة النغمات ووعد المحال. حسنا يا أصدقائي المرسلين، هاتوا أوراقكم، اليوم سوف نقرأ معاً، كلٌ يقرأ حلمه، ويغمض عينيه .. سنحلم.