“عزيزتي مارتا، إنّ في قلبي وجعاً تميل له الجبال، وقحٌ لا يزوركَ إلا في أوقات متأخرة من الليل، يجرّك من فراشك ويعلّق يديك في الهواء ويمضي. تعالي، تعالي إلى ليلي وهذبيه، اسحبي من جسدي ما بقي من وجع. أخبريني عن ضوء غرفتك، ألا يزال يفيض ليلا وتغرقين؟ أخبريني عن أسنانك، ألا زلت تكسرين الجوز بها؟ أتذكرين أيامنا الأولى، قبل أن يبعدنا الجدار ويقسمنا إلى قطيعين…”، “لماذا لا تردين على رسائلي يا مارتا؟ كتبت لك كثيراً ولا أزال أنتظر ساعي البريد يومياً كطفل ينتظر الشمس كي يلعب في البهو الخلفي لبيته. اكتبي لي، اكتبي حبنا، أخبريني عنك. هل أحببتِ أحداً غيري؟ هل أرغمك والداك على الزواج من آخر؟ هل بني جدار الفصل فوق أحلامنا؟ يا وجعي، اكتبي لي ولو كلمة”.
توقفت عن القراءة. ما كلّ هذا الوجع يا “فيدل”؟“
حبيبي فيدل، أنا بخير، ماتت والدتي قبل شهرين، ووالدي أصبح عاجزاً، حزنه عليها فتت كبده، هو بحاجة لزيارة المستشفى بشكل دائم، ليلة رأس السنة حاول ضرب “إلينا” لكنه لم يستطع، حزت كثيراً لأنه لم يستطع ضربها، لا أضمر لها شراً، ولكن حزني تجلّى في أن والدي أصبح عاجزاً تماماً. لا يزال حبّك يلمع شبقاً في قلبي، لكن المسافات كسرت الكثير من شوقي إليك. متى تنتهي هذه الأزمة، ونكسر الجدران وننطلق؟”
مررت لساني فوق لاصق الظرف، بعد أن كتبت عنوان فيدل، وسطرت اسم “مارتا” في خانة المرسل.
***
في الحافلة، كان صباح الشهر الأول من العام كئيباً، لا يزال العمّال يعانون من عوارض السُكر الذي أصابهم ليلة رأس السنة. حركاتهم ثقيلة، وكلماتهم قليلة. سحبت رسالة من حقيبتي، وشرعت:
“يكاد شهر نوفمبر أن يكون أجمل الفصول، فيه تتعرى الطبيعة لتصبح حقيقة. من قال إن النوار هو الأجمل؟ هل شاهدتم جمال الأشجار العارية؟ هذا ما يردده صديقي لي يا أمي يومياً. محكومٌ بالحزن مدى الحياة، نتشارك الزنزانة معاً منذ ثلاثة أشهر. إدارة السجن تأخر الرسائل دائماً، لا تشكّي بالمُرسل إذا ما تنبهتِ أن رسالتي مفتوحة. يفتحونها، يقرؤون محتواها ثم يرسلونها. كيف هي صحّتك يا أمّي؟ ألا تزالين تصنعين لي السترات الصوفيّة؟ لا تكلفي نفسك عناء ذلك، فهي لا تصلني إلا بعد أن يرتديها مدير السجن عدّة مرات. أنا بخير، ولا يزال صوتك يراودني في ساعات البرد حين أكون مستلقياً على البلاط أحاول النوم. حنيني إلى صباحاتك يكبر في قلبي، وأحلم أن يزهر يوماً ما. أحبّك يا أمّي”.
ترجلتُ من الحافلة بعد أن سرق “بيدرو” كل تخيلاتي، ما هي تهمته؟ يبدو أنه لا يزال شاباً، لا بد أنه حكم لسرقة أو جريمة قتل. من المستحيل أن يكون سجيناً سياسياً، حنينه لأمه لا يوحي بأن الحياة السياسية قد لوّثته. ركبت القطار وانطلقت إلى آخر محطة قبل الوصول إلى البريد.
***
في المساء، قررت أن أتأخر على موعد القطار، مشيت طويلاً في المدينة. هائمٌ أنا فوق نسمات الليل الدافئة، لا شيء معي، ترفعني النبضات وترميني. أمشي على مهلٍ كي لا أوقظ النائمين، هذه المدينة لا تعرف النوم، ولا يسكنها من ينام. أمشي كي لا أوقظ شيطاني. أنظر إلى الله، بعين واحدة، أأنت هناك، أتراني؟ انزل كي نتسامر، مللت الوحدة، زمجر برعدك، حرك صولجانك، أنفخ فيَّ، قل كلمتك السحرية “كنّ”، هل لا يزال مفعولها. حسنا، لا تنزل، ابق حيث أنت، أرسل لي أحداً يساعدني على ربط معصمي جيداً قبل أن أغرز حقنة المورفين. لقد مشيت لأميال، حين بدأ جسدي يؤلمني، خفّ الزيت في مفاصلي، وبدأ الوجع يشق طريقه عبر العظام. ركبت القطار وحيداً لأيام، كانت رحلته الأخيرة تمتد من موسكو الى نيويورك، عبرنا أوروبا قبل أن نغطس تحت الماء. يا لهذا القطار السحري. وصلت إلى منهاتن، كي أتلقى جرعة المورفين، ولكن أحداً لا يساعدني لربط معصمي، وأنا لا أقوى على فعل ذلك، رحت أتلمس العروق، أين هو ذاك العرق اللعين. ترى، هل يمكنني أن أرتشف المورفين من فمي، العِرق يأبى أن يخرج. سأرمي الحقنة أرضاً وسأقلع عن هذا الإدمان الموصوف. هات، أنت يا من في السماء، أرسل لي من يسليني. مللت الوحدة.
وضعت رأسي على المخدّة، حبست الأبناء والعشاق والأمهات والمطلقات والجنود وكل من حصر نفسه في ظرفٍ أبيض داخل حقيبتي، أوصدت عليهم القفل ودسستهم تحت التخت. هذه الليلة أشعر بالتعب، وإدماني على قراءة الرسائل وفتحها لن يشفي عطشي. طرق الله باب المساء عليّ منذ قليل سائلاً عن كسرة خبز أو نبيذ، سأل عن المغلفات المرمية على الطاولة، ظن أنها تخصّ عيد الميلاد. مهلا، ألم يمرّ عيد الميلاد؟