فأرة نظيفة

في غرفة المستودع، حين أمضي معظم يومي في الكتابة، سمعت صوت خربشة خفيفة، في البداية كان اعتقادي أنها مجرد أصوات رياح في ممرات التهوية، إلى أن شاهدتها بأم عيني.. فأرة صغيرة، تدحرجت يمينا وشمالا، قبل أن تختبئ في خرم صغير.

للوهلة الأولى، ضحكت. تذكرت حين كنا نلعب في الحيّ القديم تحت شباك جدّتي لعبة الاختباء، كنت، ولا زلت، سمينا، ولا يمكن لأي شيء أن يخفي جسدي الضخم. وكان أولاد الحيّ الأكبر سنا، يحاولون دفعي إلى الفضاء المكشوف، كي يضللوا الباحث عنا. فكنت أفعل كالفأرة، أتدحرج يمينا وشمالا، إلى أن يكتشف أمري.

ولكن، هنا قوانين اللعبة مغايرة، لن أسمح للفأرة أن تختبئ لوقت طويل هنا، بين جدران الخشب وتتكاثر. كانت جدتي تقول إنها تنجب آلاف الأطفال سنويا. غرفة المستودع لا تتسع لي ولهم.

نصبت أول مصيدة، وضعت بعضا من زبدة الفول السوداني، وانتظرت.. دقائق وانطبق ملقط المصيدة فوق رأسها. فرحت. فرحت كثيرا، لقد انتصرت عليها. انتصر الرجل الضخم على الكائن الصغير، الذي يشعرني بالتقزز. لم أكن أعلم حينها، أن وضع المصيدة والتقاطها، أسهل من عملية رفعها من مكانها، ورميها في سلة النفايات.. إنها عملية مقززة فعلا، تخاف منها وهي ميّتة في مصيدتك. المسافة صفر، والعرق يتصبب. تخاف من مخلوق صغير ميّت.

تخلصت منها، ولكن مخيلتي بقيت هناك، بين ثقوب الجدران الخفية. حتى أنني بت أرى الفئران في مناماتي، استيقظ مذعورا، وأبدأ في النظر إلى زوايا الغرفة المعتمة. في العتمة يمكنك أن ترى أشياء غير موجودة. فكانت الفئران تملأ الزوايا.

في اليوم التالي، ظهرت فأرتان، ركضتا باتجاه معاكس، وركضت عيناي معهما. وضعت مصيدة، وانتظرت. لم أفلح، الفأرة اقتربت، مررت ذيلها بخفّة فوق الطعم وسحبته، والمصيدة وأنا نتفرّج عليها بدهشة. اكتشفت حينها، أن الفأرة لا تقع في فخّ شقيقتها بسهولة. وأن هناك تكتيكات حربية عليك اتباعها. تغيّر مكان المصيدة، تغيّر نكهة الطعم، وتغيّر المصيدة. هناك المئات منها، اللاصقة، وذات الملقط، وذات القفص. وهذه يدعونها، مصيدة إنسانية، رحيمة، لا تقتل الفأر، ولكن تحبسه في داخلها، كي تحررها لاحقا في مكان بعيد. هراء، كيف سأحمل المصيدة وفيها فئران حيّة.

** 

في الليلة الأولى لنا في هذا المنزل الكبير، ماتت شقيقتي، سقطت ضحيّة تهورها في مصيدة نصبها الغول الكبير، ذو اللحية الطويلة. كان يجلس في الزاوية، خائفا منها وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة. كانت عيناي مثبتتان على وجهه المصفرّ. احفظ ملامحه، سأنتقم لشقيقتي.

في اليوم الثاني، وبعد رحلتنا الشاقة بين الجدران من منزل مجاور إلى منزله، اكتشفنا العديد من المصائد في عالمه. كانت والدتي قد أخبرتنا عن المصائد، وكيف تعمل. وكنا عبر حاسة الشمّ، نعرف أن ما يغرينا، هو موتنا المنصّب.

ركضت وشقيقتي الصغرى في أرجاء الغرفة، نبحث عن طعام. لكن الغول الذي بدا لنا متسخا، كان نظيفا. لا يترك وراءه فتات خبز، أو حتى بقايا جبنة. وحين كنا نراقبه من تحت الغسالة وهو يأكل، كنا نعدّ ونحفظ أماكن الفتات التي أفلتت من فكيّه. لكن، كان يغسل يديه سريعا ويأتي بآلة ذات صوت متحشرج، ويبتلع البقايا المتناثرة هناك. كانت هذه الآلة التي تنظر إلينا بغضب، تبتلع طعامنا، وأحلامنا.

كانت النظافة مقرفة، كل شيء نظيف. أجرينا جولات استطلاعية ليلا، في المطبخ والغرف والحمامات. لا شيء بقي هنا. مكان يعجّ بالنظافة. وأثناء عودتي إلى الفتحة التي ننام فيها، شاهدت شقيقتي تمشي بتثاقل، همست لي بأنها تشهر بالعطش. وأنها تحاول منذ ساعة أن تخرج إلى الفناء الخلفي لتشرب الماء، ولكن دون جدوى. جسدها تضخم. قالت لي إنها تناولت قطعة خضراء رائحتها تشبه الجبن. أشارت لي بعينها إلى الزاوية الموجودة فيها. كان هذا آخر نقاش بيننا. قبل أن ترحل مفتوحة العينين على باب الجحر. أمضيت ليلتي أحرسها، كنت أريدها أن تستيقظ، أن نعود لنجري معا في الزوايا وتحت الأثاث. نختبئ في أي مكان صغير، بعيدا عن الغول الكبير. 

دخل بعد ساعات علينا، وجدها على الأرض. كان يرتعش في مكانه. حاول حملها بحقيبة بلاستيكية، عيناه مغمضتان. حاول عدّة مرات لكنه فشل. أحضر مجرفة ووضعها في الكيس، ورحل.

تسلقت مكتبه، ورحت أتغوّط يمينا وشمالا، أعصر معدتي وما بقي فيها وأنشره فوق أوراقه وأشيائه. أريده أن يعرف أنني وصلت إلى هنا. اقتحمت عالمه. ما إن فتح الباب، حتى قفزت واختفيت بين معدات الحديقة المزروعة في عالمنا الكبير. 

أخبرتني أمي ماذا حدث لشقيقتي، ركضنا إلى القطعة الخضراء. تفحصناها من مسافة آمنة، وعدنا إلى جحرنا. كنا نتناقل المعرفة عبر النظر والشمّ، كيف لا يكون الطعام آلة قتلنا. 

**

في الأيام التالية، لم تقع أي فأرة في مصيدتي. قررت تغيير الطعم والمصيدة، وبدأت أتصفح الملفات المرتبطة بالفئران وتكاثرها، وأحتسب عددها لو أنها وصلت إلى مخزني قبل شهر، أو أسبوع، أو أيام. 

بقي كل شيء على ما هو. جفّ الطعام عن المصائد، واختفى عن أخريات. أحضرت قطّا، اعتقدت أنه سيكون الحارس الأمين لمخزني. لكنه فضل النوم على الكنبة في الطبقة العليا، على التواجد في الأسفل. أظنه كان يهرب من البرد هناك، في مخزني المعزول عن مضخات التدفئة.

**

كنا قد فقدنا الأمل، وتغيّرت أشكالنا، كل المصائد نعرفها، ولا تغرينا الرائحة. تطوّرت علاقتنا بالمصائد، فأصبحنا نصطاد عنها الطعام، وننجح.

في إحدى الليالي، كانت شقيقتي الصغيرة، التي أبصرت النور قبل يومين، تحاول وإخوتي الخمسة الباقون البحث عن طعام. وككل طفل شقيّ، يحاول المزاح. دفعها شقيقي حين كانت تحاول التقاط قطعة جبن صغيرة من فوق حقل صمغ. وقعت هي فيه، وهو وقع من الضحك عليها. قبل أن يتدارك، أنه دفعها إلى حتفها. حاولت كثيرا النهوض والهرب، وكل محاولة، كانت بمثابة انغماس أكثر في المادة اللاصقة. بقيت شقيقتي الصغرى مكانها لساعتين، ثم بدأ العطش يمتص جسدها النحيل. هي الأجمل بيننا. عينان سوداوان لامعتان، أسنان نظيفة لم تلوثها السكريات بعد. بشرة ناعمة، ونظيفة. لم تتعمد شقيقتي بعد في المجاري، وتخالط الأوساخ. رحلت بعد ثلاث ساعات من الواقعة. تهالكت في مكانها وفقدنا التواصل معها. لملمنا وجعنا وهربنا إلى الجحر، حين سمعنا صوت الغول يدخل إلى الغرفة.

**

كان يوم أحد، وليس من عادتي أن أزور المستودع إلا للغسيل. وقعت عيني على فأرة صغيرة، جميلة، بريئة. التصقت بمصيدتي. عيناها دامعتان، وفيهما الكثير من الحزن. كنت أعرف جيدا، أنه لو مهما حصل، لن تستطيع الخروج من مصيدتي. لكنني التقطتها بحذر. وضعتها أمامي على المكتب هي والمصيدة. وبدأت ألتقط الصور لها. كانت نظيفة بشكل ملفت. تشبه الفئران التي يربونها في أقفاص. رمادية اللون. هادئة. حزنت يومها على هذه المخلوقات التي استقوي عليها وأقتلها بلا رحمة. فقررت أن أضع لها مصائد إنسانية، وأخرجها حيّة من منزلي.

**

حين خرجنا من جحرنا، كانت المصائد مختفية، وكانت فتافيت الطعام منتشرة يمنة وشمالا، الكثير من الطعام. استدعيت اخوتي جميعا، أمي وأبي. وأصدقاءٌ من بيوت مجاورة. التهمنا الطعام على عجل. كنا نلاحقها من زاوية إلى أخرى. استلقينا على بطوننا مرات من التخمة. ثم هممنا لاستكمال الحصاد. فصل الشتاء على الأبواب، والحركة ستكون أقل. 

مشينا في مسارات كبيرة، دخلنا إلى قصر بلاستيكي، كان فيه الكثير من الطعام. تزاحمنا جميعا، وبقينا هناك لساعات. حين دخل الغول، لم نستطع الخروج من هذا القصر. تدافعنا وحاولنا التسلق دون جدوى. كانت ملامح وجهه مضاعفة، شكله غريب من خلف القصر البلاستيكي. كانت أمي تقول: “سيرمينا خارج المنزل في البعيد، وسنبحث عن منزل جديد”.

**

كانت المصيدة الإنسانية ممتلئة، فيها أكثر من خمس عشرة فأرة. حملتها جميعا بعد أن ارتديت قفازات رجل الإطفاء، ومشيت بها إلى الخارج. كنت ضائعا، أين سأضعها؟ اقتربت من سطل ماء كبير، وفتحت لها وحررتها.. بدأت الفئران بالسباحة. أغلقت السطل جيدا، ووضعت فوقه حجرا كبيرا. ومضيت.


مصدر الصورة المستعملة أعلاه

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع