لم يكن المال الذي وفّرته خلال ثلاث سنوات كافياً لأستأجر سيارة تقلّني وتلفازي الذي اشتريته للتو الى غرفتي الصغيرة القابعة تحت رصيف إحدى شوارع بيروت، حملته ومشيت على امتداد عشرة شوارع، وكلما شعرت بتورم في أصابعي بسبب تخثر الدم فيها بفعل الوزن، وضعته على الارض بعناية أبٍ يضع طفله الذي عاند النوم حتى ساعات الفجر الاولى في سريره. ساعة من عمري أمضيتها في عمليات النقل والاستراحة قبل أن أدخل به باب غرفتي وكأنني أحمل فتاة أحلامي وأدخل بها مملكتي.
أطفأت شمعتي الثالثة وأضأت شموع شاشة التلفاز الذي حرمت منه بسبب فقر أهلي في الصغر، وفقري الدائم حين خرجت من منزلهم الى قبوي الصغير.
الساعة الحادية عشرة ظهرا، كنت قد خططت لمكان تربعه أشهراً قبل أن يستقر بجانب القابس الوحيد في هذه الغرفة. كان أصدقائي يقولون إن التلفاز يقضُم الوقت بشراهة يوم الأحد، شاهدت استعراضا لفرقة راقصة ومباراة كرة قدم وحلقة من مسلسل تركي وأخرى من مسلسل الكرتون الشهير “القط والفأر”، ضحكت كثيرا يومها، قبل أن تنغصّ نشرة أخبار الساعة الثامنة مسائي، تداركت الأمر وانتقلت لمحطة أخرى لأشاهد حفلا موسيقا ثم حوارا مع احدى الشخصيات المعروفة بالبلد، لانتقل بعدها الى حلقة من مسلسل تركي آخر وفيلم أميركي سخيف والقليل من عروض الأزياء والمقاطع الاباحية التي تبث بعد منتصف الليل. ضوء النهار يشقّ عتمة القبو ويغلب ضوء شاشة التلفاز التي أنارت مربعي العفن، وحده النوم ضاع بين تقلب المحطات واختلاف أنواع المشاهد. الساعة السابعة صباحا، لم أقو على الحراك من مكاني، كان عملي سيبدأ بعد ساعة، قلت في نفسي “لا لن أذهب اليوم، سأبرر غيابي غدا بالمرض”.
غفوت في مكاني، لأصحو على جلبة خلف الباب، قفزت من فراشي، الذي أصبح في ما بعد كنبتي أيضا، ووضعت عيني في ثقب الباب، أو كما يسمونه “العين السحرية”، لأرى أبناء الجيران عائدين من مدارسهم. كان التلفاز لا يزال يبث برامجه منذ الأمس، لم ينم حين غفوت، ولم تفاجئني قدرته على الاستمرار دون النوم أو حتى التعب. يا ليتني مثله، أقضي وقتي أمامه وأنافسه في قدرتي الصلبة على الصمود في شعاع ضوئه.
أحضرت كوب القهوة الخاص بي، ورحت أتنقل بين محطات البث باحثا عن شيء يلطف جلبة أبناء الجيران، توقفت لساعة أمام برنامج للطبخ قبل أن أشعر بالجوع. هي بضع درجات صعودا إلى الشارع، عند التقاطع كان بائع سندويشات الفلافل أبو أحمد الذي أصبح يعرفني جيدا، ما أن يلمح هيكلي العظمي قادماً من بعيد، حتى يحضّر لي طلبي: سندويشة بأربع حبات من الفلافل ومن دون كبيس اللفت والقليل من الحشائش والطرطور. قبل أن أعود إلى تلفازي، مررت بدكان صغير يبيع مكسرات رديئة الجودة وسيئة الطعم وبعض الأنواع من البطاطا المقرمشة والمشروبات الغازية، اشتريت ثلاثا من كل نوع، ومضيت الى تلفازي.
كان التلفاز بصوته المرتفع يؤكد أن الحياة لا تزال مستمرة داخل هذا القبو، وأنا أمامه منبهر بما يمكن أن تقدمه هذه الشاشة للمشاهد، ترى كيف يخرج من يمتلكون التلفاز من بيوتهم؟ وكيف يسمحون لأنفسهم باتهامه بالممل؟
أمامي، كان يقف شابٌ يافع ببذة رسميّة، يطلق النكات الساخرة تجاه المواقف السياسية والاجتماعية التي حصلت خلال الأسبوع، ضحكت ملئ قلبي وتطايرت قطع من سندويش الفلافل من فمي إلى الأرض وطرف السرير، حين التهمت القطعة الأخيرة من السندويش، إعتصر الخبز ولُفظ سائل الطرطور الذي تسلل فوق أصابعي وامتد حتى راحتي، مسحت يدي بطرف الشرشف الموضوع جانبا دون أن أحرّك نظري عن هذا الشاب الذي يسخر من كل شيء.
في المساء كنت أرتشف زجاجة من “الصودا” وأقضم معها بعض حبيبات المكسرات مع بداية نشرة الأخبار، كانت مضجرة، إلا أنني لم أغير تردد القناة، كنت أريد أن أعرف أكثر كيف يستقي ذاك الشاب أخباره ويسخر منها، أو بمعنى أصح، كنت أريد أن أشاهد ما سيحدث الأسبوع المقبل خلال حلقته، وما هي المواضيع التي سيتطرق اليها.
مررت إصبعي في كعب الكيس باحثا عن حبّة مكسرات أخرى، كان الملح وحيدا في الزوايا، أخرجت إصبعي، لعقته ورميت الكيس جانبا. ألقيت رأسي على المخدة وتدثرت بالشرشف وعيناي معلقتان على الشاشة، شاهدت حلقات جديدة من مسلسلات كنت قد شاهدتها بالأمس حتى أدركني الصبح مجددا.
عيناي كانتا تشعران بحرارة خفيفة، نهضت من سريري وارتديت ثيابي، سلكت الطريق نحو العمل قبل أن أنحرف نحو بائع الفول والحمص، إشتريت منه صحنين وعدت مسرعاً إلى البيت، رميت حقيبة العمل على الأرض وجلست على سريري.
خلال رحلتي القصيرة ذاك الصباح، شعرت أن قوّة مغناطيسية تشدّني نحو البيت. حين صعدت الدرجات بدأت أفكار تشكيكية تداهمني وتأمرني بالعودة إلى المنزل، كان يخطر في بالي أن الغاز لا يزال مشتعلا، ولكن كيف وأنا لم أستعمله يومها؟ أو أن يوبخني ضميري لترك جهاز التلفاز مشتعلا، فيتحجج مرّة بفاتورة الكهرباء ومرة أخرى بعمر التلفاز الذي ينقضي خلال عمله، كل هذا لم يشدّني بما يكفي كي أعود، وحدها حلقة جديدة من مسلسل تركي أعادتني الى المنزل وفي يدي صحني الحمص والفول.
أنهيت فطاري متأكدا من ضرورة أن أشتري حاجياتي لشهر كامل، فمحاولات الفرار -أو الخروج- التي كان عقلي يتفنن في اختراعها سوف تتداعى أمام عدم الحاجة، وأن محاولات إبعادي عن هذا المخلوق السحري ستتبخّر. قلت لنفسي: “هذا المساء، سأخرج الى الدكان المجاور لبيتي وأحضر حاجياتي”.
“مئتا دولار”، قال صاحب الدكان. دفعتها بعد أن سحبت المال المتبقي في حسابي المصرفي من الصراف الالي، بقي لدي مئتين أخريتين من مدخولي الشهري، حملت الأغراض وعدت إلى البيت، كانت ساقاي تتسابقان الخطوات، لا أريد أن أترك طفلي وحيدا في المنزل، ربما سيغدر بي الوقت وتفوتني بداية فيلم أميركي جديد، من يدري. ترى هل هناك من طريقة أحصل فيها على لائحة العروضات والبرامج لجميع قنوات التلفزة؟
رتبت الحاجيات التي اشتريتها، كل في مكانه، لم تكن خزائن القبو الصغيرة تتسع لجميعها، أبقيت على نصفها في العلبة الكبيرة التي وضعها بها صاحب الدكان. الأصوات الآتية من خلف الباب تدفعني في كل مرة إلى زرع عيني داخل الثقب السحرية، وجوه بأشكال مختلفة، متضخمة بعض الشيء، أرجل المارة وأحذيتهم، كلاب وقطط، عجلات السيارات والدراجات الهوائية والنارية، أكياس النفايات وأشياء أخرى، كلها كانت بأبعاد وأشكال مختلفة.
خمسة عشر يوماً أمضيتهم في هذا القبو والباب على إغلاقته الأخيرة حين عدت من الدكان، حاول زيارتي العديد من الأصدقاء، راقبت أشكال أنوفهم الكبيرة من العين السحرية، وتضخم أعينهم ووجوههم، لم أفتح لا لهم ولا لجابي الكهرباء ولا حتى للمتسولين، لم أكن أريد أن أستمع لأحد سوى تلك المخلوقات المهندمة التي تظهر في شاشتي، وكنت أستمتع بقدرتي على إسكاتهم متى شئت بالضغط على زرّ تغيير القناة متى مللت من حديثهم أو تذكرت موعد حلقة من مسلسل بدأته من منتصفه.
شعرت بحكاك في شعري وجلدي، تذكرت أنني لم أستحم منذ أن أحضرت طفلي المدلل. الخوف من الوقت الطويل الذي أمضيه تحت صنبور الماء مقارنة مع ما كنت سأخسره من مشاهد، كان حاجزا أمام دخولي تحت الماء. غسلت رأسي فوق المغسلة ومسحت جسدي العاري بمنشفة مبللة عليها القليل من الصابون أثناء مشاهدتي الحلقة الاخيرة من مسلسل تركي، بقيت عاريا طوال اليوم، وبشكل أوضح، قلت لنفسي: “منذ اليوم سوف لن أرتدي شيئا، ولماذا أرتدي الثياب أصلا؟ من هم معي في المنزل لا يستطيعون رؤيتي!”
حفظت جميع الوجوه التي تزورني في قبوي العفن هذا، وجه هذا المذيع وتلك العارضة وهذه الممثلة، حفظت جميع تكاوينهم، حتى أنني بدأت أميز مزاجاتهم من خلال نبرة صوتهم اثناء الكلام. كتبت اساميهم على دفترٍ صغير لازمني الفراش منذ اليوم الاول، واستطعت بفضل تراكم المشاهدات ان اصنع جدولي الخاص بالعروضات، في الصباح اشاهد البرامج الحوارية الاجتماعية، ثم انتقل الى مسلسل تركي قبل ان يحين موعد نشرة الاخبار. الصباح بحسب توقيتي يبدأ في تمام الساعة الواحدة ظهرا. التلفاز غلبني في عملية الصمود، هو لم ينم منذ دخوله عالمي، يواصل البثّ دون كلل، عملية البث لم تتغير ولم تتضاءل، وحدها الاطعمة التي اشتريتها بدأت تختفي يوما بعد يوم، في حين ان اكياس النفايات كانت تتراكم امام باب منزلي على ان اخرجها يوما ما الى الحاوية.
التلفاز جهاز غير ممل، الا انني حين كنت أحس بتشنجات في عضلات رقبتي وركبتيّ، كنت نحو العين السحرية، احشر عيني في اطارها واراقب العالم الخارجي. جارتي التي لا يتوانى عن زيارتها رجال ذوي بدلات رسمية فاخرة، لا تزال رائحة عطرها قادرة على التسلل من تحت الباب وتحتل قبوي. كانت الجلبة أيضا تحملني إلى هذه العين، فأراقب الجمع في الخارج، في العالم الثاني خلف الباب.
كانت المسلسلات تنتهي بحلقاتها الطويلة، والاخبار تنتهي بنشراتها المملة واطعمتي كانت تنتهي ايضاً، كل شيء كان ينتهي الا البث، استمر لخمسين يوما، ولم ينتهِ. ترى ما هي نهاية البث؟ كيف ينتهي؟ متى ينطفئ الضوء الآتي من الشاشة؟
وضعت رأسي على المخدة، أنفي يتحسس روائح غريبة عليها، روائح خل وجبن معفّن، أعتقد أنه حان وقت تبديل الملاءات جميعها، كيف لا والبقع بدأت تنتشر كالحصبة فوقها!
صباح يوم الاحد، في الثاني والعشرين من شهر نيسان، من العام ذاته الذي اشتريت فيه التلفاز، تناولت آخر علبة حمص وأكلتها حين استيقظت عند الظهيرة. انتهى مخزوني من الطعام ولم يبق لدي من مدخرات، أمضيت الساعات التالية من يومي أشاهد مباريات الدوري الايطالي والانكليزي، عند المساء شعرت بالجوع قليلا، بحثت عن شيء لآكله في خزائن المطبخ لم أجد شيئا، في كومة أكياس النفايات التي تكبّرت يوما على لقمة ورميتها، لم أجد شيئا. تحاملت على الجوع وتناسيته بمشاهدة المزيد من البرامج الترفيهية والافلام. مع الفجر بدأت معدتي تتقلب، تمتص ما بقي لدي من طاقة، تطلب ما لا املكه، الطعام.
مع ساعات الفجر الاولى، قررت ان اخرج لأبيع التلفاز. الجوع كان يعتصر معدتي، في تمام الساعة الثامنة صباحا، خرجت حاملا طفلي الصغير بعد ان اعدته الى كرتونته ووضبته، حملته ومشيت، كنت اعرف بعض المحال التي تبعد مسافة نصف ساعة من السير على الاقدام، من الممكن ان تشتريه مني. سكان بيروت خرجوا من منازلهم، الاطفال الى مدارسهم والكبار الى اشغالهم، حين مررت بالقرب من أحدهم، كان شكل وجهه غريبا، عيناه متكورتان الى الامام وانفه كبير. مررت بسيدة أخرى، كان شكلها مشابهٌ لذاك، كانت أشكالهم مشابهة لأولئك الذين راقبتهم من خلف باب قبوي، من العين السحرية. تقاسيم وجوههم بأبعاد مختلفة. أغمضت عيني وأعدت فتحها، لا تزال الوجوه التي تطاردني اشكالها تشبه جميع الوجوه التي ظهرت في العين السحرية، عيون كبيرة وأنف قريب الى وجهي ورأسٌ مختفٍ خلف العينين. انزلت التلفاز على الارض ورحت اتحسس عيني، خشيت أن تكون عدسة العين السحرية لا تزال معلّقة فيها. لا شيء ظاهر، أعدت حمل التلفاز وأكملت طريقي، والوجوه بنظرة العين السحرية تطاردني على الارصفة والاشارات. الطريق بدا طويلا، سارعت الخطى، هربا من الوجوه ربما! لا أدرى، أغمضت عيني حين لم أستطع أن أقاوم تلك الوجوه غريبة الابعاد. مغمض العينين مشيت لأكثر من عشر خطوات قبل أن أتعثر وأسقط والتلفاز أرضا. حين فتحت عيني، رأيت الوجوه عينها تحاصرني، تحاول أن تقترب أكثر من وجهي، أن تتضخم أكثر، كان الخوف يعتريني، أبعدتهم من حولي وانتفضت من مكاني وبدأت أجري نحو قبوي. دخلت وأغلقت الباب خلفي، سددت خرم العين السحرية بمنديل واندسست تحت غطائي.
———-