اليوم كان ماطرا، سحبت من المكتبة كتابا كنت قد بدأت بقراءته قبل عام. أثناء القراءة، باغتني إحساس أسرى الحرب، وراجعت شريط حياتي منذ ٨ أشهر حتى الآن، ليتبين أن جذور الملل قد قست كأظافري، وأن السأم بلغ حده لدرجة أنني بت أتمنى أن تقفل البلاد والأشغال وننتظر الساعة. هذا البؤس تسلل على مهلٍ كقومٍ يمشون في العتمة حذار الحالمين. وأن شعورك الجامح بفعل الـ “لا شيء” هو الطاغي، أن تمضي نهارك تتأمل شيئا لا قيمة له، أو أن تسرح في البعيد دون هدف، أو أن تنام وتصحى خلال يوم أحدٍ ممل منتظرا الصباح التالي. كانت قبل أشهر، بدايات الأسابيع تعنيني بشكل كبير، وكان الشغف ببدء أسبوع حافل يملأني كنشوة طفل ركب المرجوحة وطار معها نحو الغيم المعلّق على أبهة السماء. اليوم أشعر أنني كجيش مهزوم يجلس القرفصاء وينتظر، لا يفعل شيئا غير الذهاب بروتينٍ خريفي إلى العمل ثم يعود إلى البيت، يأكل، وينام وينتظر.
الانتظار الطويل كان ليكون سهلا أو مَرنَا، لو أن حياتنا لا تزال كسابق عهدها، نخالط الناس بلا خوف ونعانق الأصدقاء دون تردد، نخرج إلى الحانات المغلقة والمطاعم الصاخبة، والشوارع المرسومة بلباس المارة.
اليوم، كلنا نمهد طريقنا إلى العزلة، نرتب أركان بيتنا ونجهزه للعزلة الكبرى إذا ما صدقت توقعات الموجة الثانية من الفيروس. نخزّن لبّ البطيخ ونشتري ألواح الألعاب التقليدية ونجمع قناني النبيذ لليال شتائية مقبلة، وننتظر الأعياد لنحتفل بأقل عدد من الناس، ونترقب أخبار الموتى خلف الأطلسي بخوف من أن تجبرنا أي واقعة على ركوب الطائرة في زمن أصبحت متعة السفر فيه كابوسا، إذ أنني سألت كل من قام بفحص الفيروس عن الوجع من دخول أنبوبٍ في فتحة أنفه، متخيلا أن هذا الشيء الطويل قد يخرج من مؤخرة رأسي إذا ما أجبرت عليه، فأرتعب.
الخوف يأسرنا، نحن أسرى الحرب الذين وقعنا في فخ حرب الطبيعة مع التكاثر على هذا الكوكب، وبدأنا ننتظر إعلان النصر كي نعود إلى الشوارع ونسأل عن أشياءٍ تافهة دون خوف، كأن توقف أحدهم لتسأله عن مكانٍ أنت تقف أمامه فيدلك برحابة صدر، أو أن تداعب كلب أحدهم لا لشيء إلا لأنك تحب الكلاب وتسعى لتعلم عاداتها وجذورها، أو أن تفتح حديثا طويلا مع بائعة أو بائع في محال الالكترونيات فقط لأنك تريد ممارسة اللغة الانكليزية، دون أن تواجه صعوبة في فهم الكلمات ونطقها عبر الكمامة، فتخجل وترحل.
أخرجونا من هذا السجن الكبير، قبل أن نفقد ما بقي من عقلنا!